- الرئيسية
- إضاءات علمية
- مهارات تعديل السلوك لدى الناشئة - د. رضوان الخياط
مهارات تعديل السلوك لدى الناشئة - د. رضوان الخياط
- المشاهدات: 929
مهارات تعديل السلوك لدى الناشئة - د. رضوان الخياط
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
يتعرَّض الأطفال في مجتمعنا اليوم إلى تحدٍّ كبيرٍ على مستوى السلوك، وبات موضوع إنشاء وتعديل السلوك مِن أكثر القضايا الَّتي يحتاجها الآباء والأمَّهات، كما أنَّه يشغل المؤسَّساتِ التعليميَّةَ والتربويَّة، فيُبذَل في سبيله الجهد والوقت الكبيران.
لقد باتت الأُسَر تستعين في مهمَّة تربية أبنائها إلى مؤسَّساتٍ تعمل وفق منهجٍ متكاملٍ قائمٍ على القِيم والأخلاق، ليُترجَم لاحقاً في سلوكهم. وبات الشغلُ الشاغلُ للمؤسَّسات التربويَّة صناعةَ المنهج الأمثل، وطريقة عرضه، وأدواته، وكيفيَّة الوصول إلى نتائجَ مؤثِّرةٍ في سلوك الأطفال.
لذلك بات لزاماً على القائمين على أيِّ منهجٍ تربويٍّ طرحُ أسئلةٍ دقيقةٍ لمحاسبة وتقييم الخطوات المتَّبعة لبناء العمل على أسسٍ علميَّةٍ.
هذا وإنَّ طرْح أيِّ برنامجٍ تربويٍّ يجب أن يترافق مع الأمور الآتية:
- توضيح علاقة البرنامج بالنتائج وبالخطوات المرجوَّة منه؛ سواءٌ على المدى القصير، أو المدى الطويل.
- توضيح آليَّة البرنامج، وكيفيَّة العمل عليها؛ ليتسنَّى تحقيق الأهداف المنشودة.
- تحديد النظريَّة المعرفيَّة للتغيير، وهي الَّتي يَبني عليها البرنامجُ:
- تغييراً في: البناء الفكريِّ، المواقف، السلوك أو الهويَّة، الثبات أو امتلاك الميزان والفرقان.
- العلاقةَ بين الخدمات المقدَّمة مِن النشاطات وبين النتائج.
- قيمة التغيير الَّذي يقدِّمه هذا البرنامج في أعين الناس والأهل، ومقدار الثمن (المادي والمعنوي) الَّذي يترتَّب على الالتزام به.
- تقييم النتائج؛ وهو مِن الأهمِّيَّة البالغة في عمل أيِّ برنامجٍ؛ ليتأكَّد للمستفيد حصولُه على برنامجٍ يخوِّله الوصول إلى النتائج الَّتي يبتغيها الأهل خصوصاً، والمجتمع عموماً، ولكي يضمن المستفيد هذا الأمر، فلا بدَّ مِن مراعاة عدَّة وجهات نظرٍ: وجهة نظر الطلَّاب، وكذا أولياء الأمور، والمدرّب، والمنظّمة الشريكة والمشرف الخارجيِّ.
- مقوّمات النجاح التربويَّة؛ مثل:
- تغيير مجموعةٍ محدَّدةٍ مِن التصوُّرات.
- زيادة الإقناع والتمسُّك بالقِيم.
- انعكاس ذلك على السلوك والمواقف.
- تغيير المعالم في طريقة التفكير والشخصيَّة.
- تحقيق بعض معالم الاستخلاف وحمل الأمانة.
وهنا في هذه المرحلة يتمُّ العمل على تحديد نقاطٍ ثلاثٍ هي:
- النقطة الأولى: العوامل الَّتي يسعى أيُّ برنامجٍ تربويٍّ للعمل على تغييرها.
- النقطة الثانية: كيف يتمُّ إثبات تغيير هذه العوامل المستهدَفة مِن قِبل البرنامج الأخلاقيِّ القِيميِّ التربويِّ الَّذي يتمُّ العمل عليه.
- النقطة الثالثة: تحديد نسبة التغيير الَّتي أحدثها البرنامج والقائمون عليه.
التربية ونظريَّات التعلُّم
كلُّنا نأمل أن يكون لنا قرَّةُ أعينٍ مِن أبنائنا، وهو ما وجَّهنا إليه ربُّنا عزَّ وجلَّ في الدعاء في كتابه العزيز: ﴿رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]، وقد جعل رسول الله الأمر منوطاً بالوالدين، تقع مسؤوليَّته على عاتقهما، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»[1].
ولِيتسنَّى لنا العمل على تكوين منهجٍ يهدف إلى تغيير السلوك أو تعديله، فلا بدَّ لنا مِن أن نستطلع النظريَّاتِ التعليميَّةَ المتكلَّمَ بها في هذا الخصوص، محاوِلين إيجاد الطريقة المثلى للتطبيق الأمثل بغية تغيير السلوك أو تعديله.
نظريَّات التعلُّم
ابتداءً علينا وضع تعريفٍ لكلٍّ مِن المعرفة والتعلُّم؛ بهدف الوقوف على الفرق التطبيقيِّ والعمليِّ بينهما.
فالمعرفة: هي اكتساب المعارف. أو: هي الفهم والاستيعاب الَّذي يحصل عليه الفرد مِن خلال تجربته وتعلُّمه وتفاعله مع العالم الخارجيِّ، وتتضمَّن مجموعةً مِن المفاهيم والمعلومات والمهارات والقِيم والمعتقدات الَّتي يحتفظ بها الفرد في ذهنه.
بينما التعلُّم: هو اكتساب معرفةٍ قابلةٍ للتوظيف. أو: هو عمليَّة تغيير السلوك، أو الأداء، أو المعرفة، الَّذي يحدث في الفرد نتيجة تفاعله مع البيئة الَّتي يعيش فيها. ويمكن أن يتمَّ التعلُّم مِن خلال الخبرة الشخصيَّة، أو الدراسة والتعليم، أو التفاعل مع الآخرين، أو البيئة المحيطة.
ونحن هنا بصدد الحديث عن التعلُّم بهدف إنشاء سلوكٍ، أو تعديله، وسنستعرض بعض نظريَّات التعلُّم الَّتي يمكن مِن خلالها:
- تشكيل منهجٍ تربويٍّ قادرٍ على تغيير السلوك أو تعديله، منطلِقين في ذلك مِن المقدمة الَّتي مهَّدنا بها لهذا الموضوع.
- وضع آليَّة التطبيق الأمثل لهذا المنهج التربويِّ؛ لأنَّ الغالب على عالمنا العربيِّ والإسلاميِّ أنَّه كثيراً ما يتمُّ التركيز على الناحية النظريَّة دون التأكيد بشكلٍ كافٍ على التطبيقات العمليَّة للنواحي النظريَّة الَّتي تكون محلَّ النظر بها، فيتمُّ التركيز من قِبَل المعنيِّين على الدورات والندوات والورشات، دون التركيز بشكلٍ كافٍ على التطبيقات العمليَّة، في حين أنَّه ينبغي أن يكون شغُلُهم الشاغل: كيف يمكن أن يتمَّ تطبيق النواحي النظريَّة على أرض الواقع؟
أوَّلاً: نظريَّة التعلُّم الشرطيِّ (Coditioning Theory)
وهي نظريَّةٌ في علم النفس تركِّز على تفسير كيفيَّة تعلُّم الحيوانات والبشر مِن خلال تجاربهم في بيئتهم. وتقوم هذه النظريَّة على فرضيَّةٍ أساسيَّةٍ، وهي أنَّ السلوك يمكن تعلُّمه مِن خلال تعرُّض الفرد لمجموعةٍ مِن الحوافز والعقوبات. ، كتعليم الحيوانات والبشر عن طريق تقديم حوافزَ وعقوباتٍ لتشجيع السلوك المرغوب وتثبيته وينقسم إلى قسمين:
الأولَّ: نظريَّة التعلُّم الشرطيِّ الكلاسيكيِّ: Classical Conditioning
يتمُّ تطبيق نظريَّة التعلُّم الشرطيِّ الكلاسيكيِّ بحيث يتمُّ تسيير الدماغ في سلوكٍ مشروطٍ بين أمورٍ ليس بينها أيُّ ارتباطٍ عادةً، ليتحوَّل المثير الحياديُّ إلى مثيرٍ شرطيٍّ، وتُستخدم هذه النظريَّة في العديد مِن المجالات؛ مثل: تدريب الحيوانات، وتعليم الأطفال، والتسويق.
وفيما يأتي أمثلةٌ تطبيقيَّةٌ على ذلك:
- عرض الطعام على الكلب عادةً يثير لعابه، أمَّا إسماع الكلب صوتَ الصفَّارة لا يثير اهتماماً عنده من هذا القبيل باعتباره مثيراً حياديَّاً، ولكن عند عرض الطعام عليه تزامناً مع إسماعه صوتَ الصفَّارة فإنَّه يُستثار لعابُه، ومع تَكرار الأمر، يصبح هناك ارتباطٌ بين الصفَّارة وحضور الطعام، فبمجرَّد إسماع الكلب صوتَ الصفَّارة، يسيل لعابه في كلِّ مرَّةٍ، حتى ولو لم يحضر الطعام، لقد تحوَّلت الصفَّارة في دماغه مِن مثيرٍ حياديٍّ إلى مثيرٍ شرطيٍّ.
- أيضاً، أغلب الدعايات المتداولة في الطرقات وفي وسائل الإعلام، تُطبِّق الإشراط الكلاسيكيَّ، محاوِلةً الربطَ بين: صورةٍ، أو صوتٍ، أو شكلٍ جميلٍ، أو شخصٍ ما.. يترك أثراً وانطباعًا إيجابيَّاً في أذهان الشريحة المستهدفة.. وبين بضاعةٍ يُراد الترويج لها عند هذه الشريحة، لتستحضر هذه الشريحةُ ذاك الشعورَ الإيجابيَّ لحظة رؤية البضاعة وعرضها على الزبون.
- أيضاً، اكتساب المخاوف المرضية مثلا من العناكب والحيوانات والظلام. كثيراً ما يتم ارتباطها في أذهان الناشئة بمشاعر الخوف غالباً بسبب عملية الاشتراط الكلاسيكي. ويمكن علاجها بنفس الأسلوب عند تعرض الشخص الذي يعاني للمثير الشرطي (ما يخاف منه) بشكل متدرج حتى تتلاشى درجة الانفعال والارتكاس الشرطية.
تُعدُّ نظريَّة التعلُّم الشرطيِّ الكلاسيكيِّ مِن أقدم النظريَّات في علم النفس؛ إذ تمَّ تطويرها منذ القرن التاسع عشر. وما زالت هذه النظريَّة مستخدَمةً بشكلٍ واسعٍ في العديد مِن المجالات العمليَّة، وتُعتبَر أحدَ الأسس الرئيسيَّة لتطوير برامج التدريب والتعليم.
الثاني: نظريَّة التعلُّم الشرطيِّ الجزائيِّ: Operant Conditioning
حقيقةً يُعتبر هذا القسم من أهمِّ الأمور الَّتي سنقف عندها في موضوع تغيير أو تعديل السلوك، فنظريَّة التعلُّم الشرطيِّ الجزائيِّ : هي نظريَّةٌ في علم النفس تُشير إلى أنَّ السلوك الإنسانيَّ يمكن أن يتأثَّر بتجربة العواقب المرتبطة به. وفي هذه النظريَّة، يتمُّ استخدام العقاب والمكافأة كأدواتٍ لتشكيل سلوك الفرد وتحفيزه لاتِّخاذ سلوكٍ معيَّنٍ أو تجنُّب سلوكٍ آخرَ.
وتقوم نظريَّة التعلُّم الشرطيِّ الجزائيِّ على فرضيَّة أنَّ الفرد يتعلَّم مِن خلال العواقب المرتبِطة بسلوكه، وهو ما نسمِّيه بالتعزيز الإيجابيِّ أو السلبيِّ، أو العقاب الإيجابيِّ أو السلبيِّ، وذلك وفق الآتي:
- التعزيز الإيجابيُّ: يقوِّي الاستجابة من خلال تعريض مَن تجري عليه التجربة لشيءٍ سارٍّ عادةً بعد الاستجابة، فإذا كان السلوك يتْبعه نتائجُ إيجابيَّةٌ، فإنِّي أُتْبِعه بمكافآتٍ معنويَّةٍ؛ مثل: الثناء، أو الاعتراف، أو مكافآتٍ ماديَّةٍ، فإنَّ الفرد يميل إلى تَكرار السلوك نفسه في المستقبل.
- بينما التعزيز السلبيُّ يقوِّي الاستجابة بتقليل أو إزالة شيءٍ غير سارٍّ عادةً، فإذا كان السلوك يتْبعه ذلك، فإنَّ الفرد يميل إلى تَكرار السلوك نفسه في المستقبل. مثاله: زيادة الاستجابة عند الطفل تكون بتعزيزها إمَّا مادِّيَّاً: هدايا، مكافآت، رحلة.. أو معنويَّاً: ثناء، قُبلة، شكر..، أو بإيقاف أمرٍ غير مرغوبٍ مِن قِبل الطفل مقابل التزامه بسلوكٍ إيجابيٍّ؛ كالسماح له بالمشي مستقِلَّاً في الشارع شرط الامتناع عن الجري والقفز.
- ويجب الانتباه إلى أنَّ التعزيز السلبيَّ لا يعني بالضرورة شيئاً إيجابيَّاً أو لطيفاً، وإنَّما يكون بمثابة إزالة موقفٍ سلبيٍّ أو عقابٍ، والتعزيز الإيجابيَّ يعني منح شيءٍ إيجابيٍّ أو مكافأة. والهدف مِن استخدام هذين النوعين مِن التعزيز هو تشجيع السلوك المرغوب، أو تشكيل السلوك الجديد بطريقةٍ فعَّالةٍ.
- أمَّا العقاب الإيجابيُّ فإنَّه يُضعف الاستجابة من خلال تعريض مَن تجري عليه التجربة لشيءٍ غير سارٍّ عادةً بعد الاستجابة، أو بعبارةٍ أخرى: هو إضافة شيءٍ سلبيٍّ أو عقوبةٍ لتقليل أو إيقاف سلوكٍ غير مرغوبٍ. فإذا كان السلوك يتْبعه عواقبُ سلبيَّةٌ، فإنِّي أُتبِعه بعقابٍ معنويٍّ؛ مثل: الانتقاد، أو العقوبة، أو النقد، أو عقابٍ مادِّيٍّ، فإنَّ الفرد يميل إلى تجنُّب السلوك في المستقبل.
- بينما العقاب السلبيُّ يُضعف الاستجابة من خلال تقليل أو إزالة شيءٍ سارٍّ عادةً، أو هو إزالة شيءٍ إيجابيٍّ أو مكافأةٍ لتقليل أو إيقاف سلوكٍ غير مرغوبٍ. فإذا كان السلوك يتْبعه ذلك، فإنَّ الفرد يميل إلى تجنُّب السلوك في المستقبل. مثال العقاب الإيجابيِّ: إذا كان الطفل يلعب بالكرة داخل المنزل، وهذا يتسبَّب في كسر بعض الأشياء، فإنَّه يمكن أن يتمَّ تطبيق عقابٍ إيجابيٍّ بإضافة عقوبةٍ مثل الصفعة أو الانتقاد. أمَّا العقاب السلبيِّ: إذا كان الفرد يتسبَّب في إزعاج الآخرين بصوته العالي، فإنَّه يمكن أن يتمَّ تطبيق عقابٍ سلبيٍّ بإزالة مكافأةٍ مثل إيقاف اللُّعبة الَّتي كان يستمتع بها، أو حرمانه مِن متابعة برنامجه المفضَّل.
مقوِّمات التعزيز:
مقوّمات التعزيز كثيرةٌ، أهمُّها:
- قُرب العلاقة بين السلوك والعاقبة حتى ترتبط في ذهن الطفل.
- عدم الإكثار مِن المكافآت المادِّيَّة، والاعتماد على المكافآت المعنويَّة في الغالب؛ كي لا يرتبط أيُّ سلوكٍ عند الطفل بمكافأةٍ مادِّيَّةٍ، فيخلِّف ضرراً سلوكيَّاً عنده.
- يمكن اعتماد المكافآت الرمزيَّة، فتكون المكافأة المادِّيَّة غير رتيبةٍ وغير ملزِمةٍ بوقتٍ محدَّدٍ، ومع الوقت يُصار إلى سحب المكافآت المادِّيَّة بالتدرُّج؛ للاعتماد على دوافع الطفل الداخليَّة عوض الخارجيَّة.
- أيضاً، المكافآت المعنويَّة مثلها مثل المكافآت المادِّيَّة، يجب أن يكون لها وقتها ومناسبتها، وترتبط بإنجازٍ حتى لا تضيع قيمتها مع الزمن.
بالإضافة إلى التعليم الشرطيِّ، هناك مدارسُ مهمَّةٌ جدَّاً في التعلُّم، وفي قضيَّة صياغة السلوك تغييراً أو تعديلاً؛ إذ ليس كلُّ عمليَّة التعلُّم تعتمد الأسلوب الشرطيَّ، نمرُّ عليها باختصارٍ.
ثانياً: المدرسة المعرفيَّة (Cognitivism)
هي التبرير والتفسير والتأويل وإعطاء المبرِّر العقليِّ والعلميِّ والشرعيِّ لتنفيذ أمرٍ ما، هذه المدرسة تقوم على تغيير القناعات مكان العمليَّة الشرطيَّة الَّتي تحدَّثنا عنها.
ثالثاً: المدرسة البنيويَّة (Constructivism)
فكرة هذه المدرسة قائمةٌ على أنَّ العلم يبني بعضُه بعضاً، وينبغي على المدرِّس أن يلحظ خلفيَّة المتعلِّمين ومعرفتهم وخبراتهم، والتباينَ فيما بينهم، لتحديد المعرفة المناسبة لهم، فيعمد إلى مخاطبتهم بلغةٍ تفهمها عقولُهم وتتقبَّلها، فاختيار المعرفة مهارةٌ ضروريَّةٌ، وتظهر أهمِّيَّة هذه المدرسة ليس فقط للأفراد، وإنَّما أيضاً للمجموعات؛ فالحديث مع مجموعة أشخاصٍ تتمتَّع بانسجامٍ فكريٍّ سيؤثِّر إيجاباً في التفاعل للاستفادة من أيِّ طرحٍ. ويمكن القول بأنَّ هذه المدرسة لها دلالاتٌ شرعيَّةٌ معتمدةٌ أصالةً ومسبقاً عند المسلمين:
- أمَّا الأوَّل: فقول عليٍّ: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»[2].
- وأمَّا الثاني: فقول ابن مسعودٍ: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً»[3].
تقوم هذه المدرسة على عددٍ مِن الأسس الهامَّة، هي:
- المعلِّم هو الميسِّر.
- الاهتمام بمعرفة المتعلِّم وخبرته ومنظوره.
- التعلُّم مِن خلال الممارسة والتفاعل مع الأخذ بالاعتبار خلفيَّة المرء.
- التشجيع على الاكتشاف والبحث والفضول.
- التعلُّم مِن خلال التوجُّه الذاتيِّ.
رابعاً: مدرسة التعلُّم بالممارسة (Experiential Learning)
مدرسة التعلُّم بالممارسة هي نظريَّةٌ تعليميَّةٌ تشير إلى أنَّ التعلُّم يَحدث عن طريق التجربة والتفاعل الفعليِّ مع محيط الفرد. وتركِّز هذه المدرسة على الاستفادة مِن الخبرات السابقة والمعارف الشخصيَّة والتطبيق الفعليِّ للمفاهيم الجديدة، وتعزِّز المدرسة هذا النوع مِن التعلُّم بالتركيز على الخبرات الواقعيَّة والعمليَّة، والتفاعل المباشر مع البيئة المحيطة.
وتشير مدرسة التعلُّم بالممارسة إلى أنَّه يمكن تحسين الأداء وتطوير المهارات عن طريق الخبرة والتفاعل الفعليِّ مع الموادِّ، وليس فقط مِن خلال النظريَّات والمفاهيم النظريَّة. ويتمُّ ذلك عن طريق الاستماع لِمَا يقوله الخبراء وملاحظة ما يفعلونه، ثمَّ تطبيق هذه المفاهيم والمهارات في سياق العمل الفعليِّ.
وتعتمد مدرسة التعلُّم بالممارسة على دور المعلِّم الَّذي يساعد الطلَّاب على تطبيق المفاهيم والمهارات الجديدة من خلال إعطائهم فرصةً للتفاعل الفعليِّ مع الموادِّ والبيئة المحيطة بهم. ويتمُّ تعزيز هذا النوع مِن التعلُّم مِن خلال توفير الملاحظة والتعليقات الفوريَّة والتعلُّم مِن الأخطاء الَّتي يتمُّ ارتكابها.
وتُستخدَم مدرسة التعلُّم بالممارسة في العديد مِن المجالات؛ مثل: التعليم، والتدريب، وتطوير الذات وتحسين الأداء المهنيِّ. وتُعتبر هذه المدرسة مِن أهمِّ المدارس التعليميَّة المستخدمة في مجالات تطوير المهارات وتحسين الأداء في العمل.
أيضاً، تقوم هذه المدرسة على عددٍ مِن الأسس الهامَّة، هي:
- التعلُّم مِن خلال التأمُّل أثناء الممارسة والتجربة.
- التعلُّم غير محصورٍ مع المدرِّس أو في الصفِّ.
- المتعلِّم له دورٌ مباشرٌ وفعَّالٌ في العمليَّة التعليميَّة، ثمَّ التحفيز على التأمُّل والاعتبار.
- المعلِّم له دورٌ في تحفيز هذه العمليَّة مِن خلال الأسئلة المناسبة قبل وخلال وبعد الخبرة، وإسقاطها على الواقع.
خامسًا: المدرسة التواصليَّة (Connectivism)
المدرسة التواصلية هي نظريَّةٌ تعليميَّةٌ حديثةٌ، وتعتبر مِن المدارس التعليميَّة الحديثة الَّتي تركِّز على استخدام التكنولوجيا ووسائل الاتِّصال الحديثة في تحسين عمليَّة التعليم والتعلُّم، وتعزِّز الاتِّصال والتفاعل بين المتعلِّمين والعالم الخارجيِّ لتحقيق التعلُّم الفعال.
تعتمد هذه المدرسة عدداً مِن الأسس الهامَّة تقوم علىيها، هي:
- تركِّز على دور التكنولوجيا ووسائل الاتِّصال الحديثة في عمليَّة التعليم والتعلُّم.
- تركِّز على تعزيز الاتِّصال والتفاعل بين المتعلِّمين والعالم الخارجيِّ مِن خلال استخدام التكنولوجيا ووسائل الاتِّصال الحديثة.
- تعتمد على مبدأ أنَّ المعرفة تتغيَّر باستمرارٍ وتتطوَّر بسرعةٍ كبيرةٍ، وأنَّ التعليم يجب أن يتكيَّف مع هذه التغيُّرات، وأن يعتمد على التكنولوجيا ووسائل الاتِّصال الحديثة في عمليَّة التعليم.
- تعزِّز التفاعل والتواصل بين المتعلِّمين ومصادر المعرفة، وتهدف إلى تعزيز القدرة على التعلُّم الذاتيِّ، والتعلُّم المستمرِّ، والتعلُّم على مدار الحياة، من خلال استخدام الشبكات الاجتماعيَّة والمنصَّات التعليميَّة الحديثة والتعلُّم المدمج.
هذا؛ وإنَّ هذه المدرسة تلعب اليوم دوراً متزايداً في أسلوب تواصل البشر فيما بينهم، وباتت الخوارزميَّات تنظِّم هذه العمليَّة، وتقوم شركاتٌ كبيرةٌ بإدارة هذه الأمور، بغياب ضوابطَ سياسيَّةٍ أو أخلاقيَّةٍ، بهدف تحقيق الربح الماديِّ، وبات الوقت المهدور على وسائل التواصل أهمَّ عملاتها. ومع ظهور الذكاء الاصطناعيِّ أصبحت وسائل التواصل تسير بخطىً لا يمكن للبشريَّة أن تواكبها قيميَّاً، فالجميع يلهث لمواكبة هذا التطوُّر دون أن يعلم مقدار الأثر، ودون أن يمتلك الضوابط الكافية، وأصبح (80 إلى 85 %) ممَّا يُعرَض على وسائل التواصل مِن اختيار الخوارزميَّات، وللحدِّ مِن هذا الأمر يمكن الانضمام إلى المجموعات الموجَّهة، فوسائل التواصل وإن كان يمكن الاستفادة منها بطريقةٍ إيجابيَّةٍ من خلال زيادة المعرفة والاطِّلاع على علومٍ كثيرةٍ، لكنَّ معظم ما يُعرَض عليها مِن معلوماتٍ سطحيٌّ وسريعٌ وغير دقيقٍ، كما أنَّها أصبحت منبراً لكثيرٍ مِن المشاهير الفارغين، وباتوا يؤثِّرون ثقافيَّاً أكثر بكثيرٍ مِن أصحاب الفكر.
سادساً: مدرسة التعلُّم بالمراقبة والقدوة (Social Learning Theory)
تسمَّى أيضاً: التعلُّم بالقدوة، التعلُّم بالقدوة والمراقبة لا يحتاج إلى التعزيز المباشر مثل التعلُّم الشرطيِّ الجزائيِّ، وهو يحدث في حيِّز اللَّاوعي، معظم الأمور المكتسبة بالمراقبة والقدوة ليست بالضرورة مقصودةً بحدِّ ذاتها، وإنَّما هي تلقائيَّةٌ، يتلقَّاها المتعلِّم مِن القدوة، وقد لا يتنبَّه الشخص القدوة أنَّه قدوةٌ، وأنَّ هناك مَن يقتدي به ويتعلَّم منه، فمثلًا: الكلام البذيء والتدخين والعدوانيَّة والإيثار والعديد مِن السلوكيَّات الأخرى يجري تعلُّمها مِن خلال الملاحظة، حتى أنَّ المتعلِّم قد لا يُدرِك مِن نفسه أنَّه تلقَّى معلومةً بأسلوبٍ غير مباشرٍ.
التعلُّم بالقدوة يتأثَّر بعواملَ ثلاثةٍ مهمَّةٍ:
- عواملُ متعلِّقةٌ بالمحيط: مثلاً مسألة التنمُّر الَّتي يمكن أن تظهر في بعض المدارس، والعوامل المحيطة بالقضيِّة مِن كون المدرسة خاصَّةً أو حكوميَّةً، أو أنَّها تتمركز في حيٍّ فقيرٍ أو متوسِّطٍ، أو كون المدرسة أحاديَة الجنس أو مختلطةً.. إلخ، كلُّ هذه العوامل متعلِّقةٌ بالمحيط.
- عواملُ متعلِّقةٌ بالسلوك: مثلاً مسألة التنمُّر بحدِّ ذاتها والسلوك الَّذي يمارسه الطلَّاب تجاه أحدهم، فهذه العوامل تتعلَّق بالسلوك.
- عواملُ متعلِّقةٌ بالشخص: فالطفل الَّذي يراقب ما يحدث، وأين يجد نفسه ضمن أحداث هذه المشكلة، وما يشعر به مِن الناحية النفسيَّة.. إلخ، فهذه العوامل تتعلَّق بالشخص.
إذاً؛ فلا يمكن الحديث عن سلوكٍ مِن دون تحديد نوعه، أو العوامل المحيطة به، أو الإحاطة بحالة صاحب السلوك النفسيَّة والعاطفيَّة.
تُعدُّ مدرسة التعلُّم بالمراقبة مِن المدارس التعليميَّة القديمة الَّتي لا تزال تُستخدم حتى اليوم في بعض المجالات التعليميَّة، وقد تمَّ تطويرها عبر الزمن لتشمل أساليبَ تعليميَّةً حديثةً تستخدم التكنولوجيا ووسائل الاتِّصال الحديثة لتحسين عمليَّة التعليم والتعلُّم، وكلُّ ذلك يخضع لتأثير الثقافة والعولمة ووسائل التواصل والإعلام.
النظريَّة المعرفيَّة الاجتماعيَّة لـ "باندورا - Pandora":
اشترط "بندورا - Pandora" عواملَ معرفيَّةً للشخص المتعلِّم للسلوك وفق الآتي:
- التأمُّل: يتأثَّر بمقدار إثارة الانتباه والتعلُّق والتوقُّع والحالة العاطفيَّة عند المتعلِّم.
- التذكُّر: قدرة المتعلِّم عل تداول المعلومات وترميزها وربطها بغيرها.
- القدرة: ينبغي أن يكون لدى المتعلِّم القدرة الفهميَّة والحركيَّة لتكرار فعل القدوة.
- الدافعيَّة: ينبغي للمتعلم أن تكون لديه الدافعيَّة ليحذوَ حذوَ القدوة.
الخطوات الأساسيَّة للتعلُّم بالمراقبة:
تعتمد مدرسة التعلُّم بالمراقبة على السلوك الظاهريِّ للمتعلِّمين، وتحديد العوامل الَّتي تؤثِّر في سلوكهم، وتشجِّعهم على تعلُّم المهارات والمفاهيم الجديدة. وتشمل الخطوات الأساسيَّة للتعلُّم بالمراقبة الخطوات الأساسيَّة الآتية:
- يجب أن يكون الهدف واضحاً لعمليَّة الاقتداء والتعلُّم بالمراقبة، وضرب الأمثلة المناسبة: (المكان، الزمان، العمر، الوسط، السلوك).
- تقصِّي عمليَّات التفكير عند المدرِّس والطلَّاب.
- توضيح عمليَّة التعلُّم وخطواتها.
- تطبيق عمليَّة التعلُّم على بعض الأمثلة العمليَّة.
- توضيح موقع المهارة أو السلوك ضمن خطواتها البنائيَّة.
- إعطاء فرصة للطلَّاب لممارسة عمليَّة التعليم بأنفسهم.
- توضيح الاستنتاجات ونقاط التعلُّم المفتاحيَّة.
تتمثَّل فعاليَّة مدرسة التعلُّم بالمراقبة في توفير بيئةٍ تعليميَّةٍ محفِّزةٍ وحسب الخطوات المذكورة أعلاه لتحقيق أقصى نتيجةٍ في تحسين سلوك وأداء المتعلِّمين.
إعداد خطَّةٍ متكاملةٍ لإنشاء وتعديل السلوك
إنَّ إعداد خطَّةٍ متكاملةٍ لإنشاء وتعديل السلوك يتطلَّب الخطواتِ الآتيةَ:
- تحديد الأهداف التربويَّة: حيث يتمُّ تحديد الأهداف التربويَّة الَّتي يجب تحقيقها مِن خلال تغيير السلوك، فلا يمكن أن تكتمل أركان الخطَّة إلَّا إذا اقترنت بذلك.
- وضع خطَّة العمل لتغيير السلوك غير المرغوب وإنشاء السلوك المرغوب: حيث يتمُّ وضع خطَّة العمل بغية تحليل السلوك السلوك الحالي، وتحديد العوامل الَّتي تؤثِّر عليه وتسبِّبه، وتحديد الإجراءات والتدابير الَّتي يجب اتِّخاذها لتحقيق الهدف المرجوِّ، وفي كثيرٍ مِن الأحيان قد لا يحتاج تعديل السلوك سوى: (تعديل بعض الأمور البسيطة، تعديل الظروف المحيطة، بعض التعزيز المادِّيِّ أو المعنويِّ، شرح العواقب، تغيير القناعات، استخدام أسلوب الوقت المستقطع لمعاقبة الطفل شرط عدم التعنيف أو التجريح، وعلى أن يتناسب الوقت المستقطع مع عمر الطفل، أيضاً العقاب بأسلوب سحب الامتيازات والمراقبة بالقدوة).
- تطبيق الخطَّة: حيث يتمُّ تطبيق الإجراءات والتدابير المحدَّدة في خطَّة العمل.
- المراقبة والتقييم: حيث يتمُّ متابعة سلوك المتعلِّم، وتقييم تحقيق الأهداف وتعديل الخطة إذا لزم الأمر.
عند العمل على تعديل سلوك يجب أخذ كلِّ هذه العوامل بعين الاعتبار، مع التأكيد على وضع الخطَّة المناسبة، ويمكن تحقيق هذه الخطوات مِن خلال العديد مِن الأساليب والوسائل المختلفة؛ مثل: تطبيق المكافآت والعقوبات، والتعليم بالمثال، والمراقبة المستمرَّة، والتعديل الفوريّ للسلوك، وتطوير مهارات التواصل والتفاوض والتدريب المكثَّف لتحسين الأداء. ويجب أن تتمَّ هذه الخطوات بشكلٍ مدروسٍ ومتكاملٍ، وأن يتمَّ تحقيق التوازن بين الإيجابيَّات والسلبيَّات وفقاً للأهداف والظروف المحدَّدة.
[1] - صحيح البخاري: 1/456. صحيح مسلم: 8/52.
[2]- صحيح البخاري: 1/59.
[3] - صحيح مسلم: 1/9.
فيديو داعم - التعلم بالمراقبة
تصنيفات الإضاءات العلمية
النشرة البريدية
يمكنك متابعة أهم الدورات من خلال النشرات البريدية